نعلم أن المسلم الجاهل يعذر بجهله ، وهذا ثابت بالعديد من الأدلة من القرآن والسنة ، ولكن قرأت صحيفة لجماعة معينة لا يعذرون بالجهل ، وأي شخص يكون عنده أي خلل أو نقص في أصل الدين أو العقيدة فإنه يكون مشركا ، وكان من أدلتهم الآية في سورة الأعراف ، قال تعالى : ( فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ) ، والآية في سورة الكهف قال تعالى : ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ) ، حيث يحتجون بها ، وبتفسير الإمام الطبري لها . السؤال : هل يمكن أن تكون هذه الأدلة صحيحة ، وأن هذا الاحتجاج صحيح ؟ وإذا كان الجواب لا فما المقصود بها ، وما هو التفسير الصحيح لهذه الآيات وغيرها من الآيات التي تشمل كلمة يحسبون في القرآن ، حيث جاءت في أكثر من موضع ؟ وإذا أمكن التفصيل بخصوص مسألة العذر بالجهل .
الاستدلال على عدم العذر بالجهل بقوله تعالى (فريقا هدى وفريقا حق عليه الضلالة)
السؤال: 283673
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
مسألة العذر بالجهل: سبق الحديث عنها في أجوبة عديدة ، وبينا أن الصواب في مسألة الجاهل وعذره : أن المسلم الذي ثبت إسلامه ، لا يزول عنه بمجرد الشبهة ، بل لا يزول عنه إلا بيقين ، وتحقق قيام الحجة الرسالية عليه ، وينقطع عذره بها .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
” وَالتَّكْفِيرُ هُوَ مِنْ الْوَعِيدِ ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ تَكْذِيبًا لِمَا قَالَهُ الرَّسُولُ ، لَكِنْ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِإِسْلَامِ أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةِ بَعِيدَةٍ .
وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكْفُرُ بِجَحْدِ مَا يَجْحَدُهُ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ .
وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ لَا يَسْمَعُ تِلْكَ النُّصُوصَ أَوْ سَمِعَهَا وَلَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ أَوْ عَارَضَهَا عِنْدَهُ مُعَارِضٌ آخَرُ أَوْجَبَ تَأْوِيلَهَا ، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا .
وَكُنْت دَائِمًا أَذْكُرُ الْحَدِيثَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي الرَّجُلِ الَّذِي قَالَ: ( إذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ، ثُمَّ ذروني فِي الْيَمِّ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ ، فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ : مَا حَمَلَك عَلَى مَا فَعَلْت؟ قَالَ خَشْيَتُك: فَغَفَرَ لَهُ).
فَهَذَا رَجُلٌ شَكَّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَفِي إعَادَتِهِ إذَا ذُرِّيَ ، بَلْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا يُعَادُ ، وَهَذَا كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ، لَكِنْ كَانَ جَاهِلًا لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ ، وَكَانَ مُؤْمِنًا يَخَافُ اللَّهَ أَنْ يُعَاقِبَهُ فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ .
وَالْمُتَأَوِّلُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ الْحَرِيصُ عَلَى مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ أَوْلَى بِالْمَغْفِرَةِ مِنْ مِثْلِ هَذَا” انتهى من “مجموع الفتاوى” (3/231) .
ينظر جواب السؤال رقم : (215338) ، ورقم : (111362) .
ثانيا:
الاستدلال بالآيات المذكورة في السؤال، مشهور عند من يرى عدم إعذار الجاهل في مسائل التوحيد.
وقد تكلم عليها، عامة من اعتنى ببحث هذه المسألة أيضا.
يقول الدكتور سلطان العميري، وفقه الله، في نقاش الاستدلال بها:
“هذه النصوص لا يصح الاستدلال بها على المنع من الإعذار بالجهل، في باب الشرك ولا غيره.
ويتبين هذا بالأمور التالية:
الأمر الأول: أن تلك النصوص جاءت في حال الكفار الأصليين، كما يدل سياقها على ذلك، لا في حال المسلمين الجهال أو المتأولين ؛ فإن الأدلة دالة على إعذارهم .
وقد نبه ابن حزم على الخطأ في الاستدلال بهذه النصوص على حال المسلم المتأول في أصول الدين، فقال: “وآخر هذه الآية مبطل لتأويلهم؛ لأن الله عز وجل وصل قوله: (يُحْسِنُونَ صُنْعًا) بقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا) . فهذا يبين أن هذا في الكفار المخالفين لديانة الإسلام جملة” .
الأمر الثاني: أن تلك الآيات تتحدث عن الكفار والمنافقين، الذين أعرضوا عن الحجج والأدلة الدالة على قبح ما هم عليه من الشرك والكفر، اعتمادا على ما ظنوه حقا وصوابا. فالله تعالى يخبر عنهم أنهم اعتدُّوا بأنفسهم، وحسبوا أنهم على خير وهدى، لما أعرضوا عن النصوص.
وهذا المعنى أخبر الله عنه في القرآن في عدة مواطن. ومنها قوله تعالى (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) الزخرف/36-37.
يقول ابن القيم، معلقا على هذه الآية: ” أخْبر سُبْحَانَهُ أن من ابتلاه بقرينه من الشَّيَاطِين، وضلاله بِهِ، إِنَّمَا كَانَ بِسَبَب إعراضه وعَشْوه عَن ذكره الَّذِي انزله على رَسُوله ؛ فَكَانَ عُقُوبَة هَذَا الإعراض أن قيض لَهُ شَيْطَانا يقارنه ، فيصده عَن سَبِيل ربه ، وَطَرِيق فلاحه ، وَهُوَ يحْسب أنه مهتد” .
وقال الشنقيطي، لما سرد الآيات التي أخبر الله فيها عن الكفار، بأنهم يحسبون أنهم على هدى: “هذه النصوص القرآنية تدل على أن الكافر لا ينفعه ظنه أنه على هدى ، لأن الأدلة التي جاءت بها الرسل لم تترك في الحق لبسا ولا شبهة، ولكن الكافر لشدة تعصبه للكفر، لا يكاد يفكر في الأدلة التي هي كالشمس في رابعة النهار، لجاجا في الباطل، وعنادا؛ فلذلك كان غير معذور”.
فدل كلامه على أن ذلك النوع من النصوص محمول على حالة الإعراض، والتعصب لما هو عليه من كفر وشرك.
وهذا المعنى هو الذي ذكره الله تعالى عن المنافقين؛ فإنهم أعرضوا عن الحق، وحسبوا أنهم على صلاح وخير، فقد أخبر الله عنهم فقال: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ) البقرة/17.
يقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الآية: هذه صفة المنافقين؛ كانوا قد آمنوا، حتى أضاء الإيمان في قلوبهم، كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا، ثم كفروا ، فذهب الله بنورهم، فانتزعه، كما ذهب بضوء هذه النار، فتركهم في ظلمات لا يبصرون.
ونحن إذا رجعنا إلى سياقات تلك النصوص، وإلى مجموع دلالات القرآن، نجدها تؤكد الكلام السابق. فسياقاتها تدل على أنها متعلقة بحق من قامت عليه الحجة، فلم يُذعن لها، وليس لها تعلق بالجاهل التي لم تقم عليه الحجة الشرعية.
فقوله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) الكهف/103-104، متعلق بمن أعرض عن الحجة، ويحسب أنه الأفضل، وليست متعلقة بالجاهل، فإنها جاءت في سياق حال المعرض عن الحجة، فقد قال الله قبلها: (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا * الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا) الكهف/100-101 .
وقد بين ابن كثير المراد منها فقال: ” أي: تعاموا وتغافلوا، وتصامُّوا، عن قبول الهدى، واتباع الحق، كما قال تعالى: ( ومن يعش ـ قرين ). وقال ههنا : ( وكانوا لا يستطيعون سمعا )، أي: لا يعقلون عن الله أمره ونهيه.
وأما قوله تعالى: (فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) الأعراف/30، فهو محمول على من قامت عليه الحجة، وبلغته الرسالة، وليست في الجاهل.
وذلك لأن القرآن بين أن الضلالة لا تحق على العبد، إلا بعد بلوغ الحجة إليه، كما قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ التوبة/115 .
يقول ابن كثير في بيان المراد منه: ” إِنَّهُ لَا يُضِلُّ قَوْمًا بَعْدَ بَلَاغِ الرِّسَالَةِ إِلَيْهِمْ، حَتَّى يَكُونُوا قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ” .
ويعلق ابن القيم على هذه الآية فيقول: ” فهداهم هدى البيان والدلالة، فلم يهتدوا ، فأضلهم عقوبة لهم على ترك الاهتداء أولا ، بعد أن عرفوا الهدى فأعرضوا عنه ، فأعماهم عنه بعد أن أراهُموه”.
ويقول في موطن آخر، مؤكدا المعنى السابق: ” فَإِن قيل: فَهَل لهَذَا عذر فِي ضَلَالِهِ، إِذا كَانَ يحْسب انه على هدى ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( وَيَحْسبُونَ انهم مهتدون ) ؟
قيل : لَا عذر لهَذَا وامثاله من الضُلاّل ، الَّذين منشأ ضلالهم : الإعراض عَن الْوَحْي الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُول ، وَلَو ظن أنه مهتد ، فَإِنَّهُ مفرط بإعراضه عَن اتِّبَاع دَاعِي الْهدى ، فَإِذا ضل ، فَإِنَّمَا أُتِيَ من تفريطه وإعراضه .
وَهَذَا بِخِلَاف من كَانَ ضلاله لعدم بُلُوغ الرسَالَة ، وعجزه عَن الْوُصُول إليها ؛ فَذَاك لَهُ حكم آخر.
والوعيد فِي الْقُرْآن: إِنَّمَا يتَنَاوَل الأول ، وأما الثَّانِي : فَإِن الله لَا يعذب أحدا إِلَّا بعد إِقَامَة الْحجَّة عَلَيْهِ”.
وهذا المعنى أشار الله إليه في قوله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) النحل/36.
فقد دلت هذه الآية، على أن حصول الهداية لبعض المكلفين، وتحقق الضلالة لبعضهم، يكون بعد إرسال الله تعالى للرسل.
ولأجل هذا حمل السعدي آية الأعراف على العبد الذي قامت عليه الحجة، حيث يقول في تفسيرها: ” أي: وجبت عليه الضلالة، بما تسببوا لأنفسهم، وعملوا بأسباب الغواية”.
فهذه الآية، إذًا: ليست فيمن كان جاهلا، لم تبلغه الحجة، وإنما فيمن أعرض عنها، وتولى الشيطان، وحسب أنه من المهتدين.” .
ثم يقول الباحث عن الاستدلال بكلام ابن جرير رحمه الله:
” وأما الاستنباط الذي استنبطه منها ابن جرير؛ من أنها دالة على المساواة بين الجاهل والمعاند في عدم الإعذار بالجهل، فهو غير صحيح، لوجوه:
الوجه الأول: أن هذا الفهم مخالف لمقتضى النصوص الشرعية الدالة على أن الضلالة لا تحق إلا على من قامت عليه الحجة.
الوجه الثاني: أن استنباطه مشكل غاية الإشكال، لأنه عام يشمل المساواة بين الجاهل والمعاند، في كل المخالفات الشرعية، وهذا مخالف للنصوص الشرعية القطيعة، التي جاء فيها الإعذار بالجهل، في كثير من مسائل الدين؛ فالتعميم الذي فهمه ابن جرير: غير صحيح.
بل إن الذين اعتمدوا على استنباطه في المنع من الإعذار في مسائل الشرك، لا يوافقونه على ذلك التعميم، لأنهم يقرون بأن الجهل عذر في المسائل الخفية، فكيف يعتمدون فهم ابن جرير؛ مع أنهم لا يأخذون به كما هو ؟!
الوجه الثالث: أن عموم استنباط الطبري يقتضي عدم إعذار حديث العهد بالكفر، أو من يعيش في بادية بعيدة ، لأنه أطلق القول بالمساواة، وذكر أن هذا هو مقتضى دلالة الآية.
وهذا مخالف لإجماع العلماء الذين قرروا إعذار حديث العهد، ومن يعيش في البادية البعيدة…”.
ثم عاد إلى أصل النقاش في الاستدلال بالآيات المذكور، وأكمل وجوه الرد عليه، فمما قال:
” الأمر الرابع: أن الاعتماد على هذا النوع من النصوص في عدم العذر بالجهل، يستلزم بالضرورة: المنع من الإعذار بالتأول في كل مسائل الدين، لأن كل متأول يحسب أنه على هدى؛ حتى في المسائل الفرعية.
وقد نبه ابن حزم على حقيقة هذا المعنى، فقال: ” لو نزلت هذه الآية في المتأولين من جملة أهل الإسلام، كما تزعمون، لدخل في جملتها: كل متأول مخطئ في تأويل في فتيا..”.
انتهى من “إشكالية العذر بالجهل في البحث العقدي”، د. سلطان العميري (204-208) مختصرا.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة