تأملت قوله تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ العنكبوت/27 . وقوله : وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا الإسراء/4 ، كيف وجدت التناقضات بين جعل الله في ذرية إبراهيم عليه السلام النبوة والكتاب في سورة العنكبوت ، والإفساد في سورة الإسراء ؟
تفسير قوله تعالى: { وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب }
السؤال: 292824
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولًا:
ذكر الله تعالى ما من به على نبيه إبراهيم عليه السلام ، بعد ما هاجر إلى ربه ، وترك قومه المكذبين له ولدعوته ، المشركين برب العالمين ، فقال : وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ العنكبوت/27 .
والمراد بهذه المنة : أن الله وهب لإبراهيم إسحاق وولده يعقوب ، وجعل النبوة والكتب في ذريتهما، وهذا واضح لا إشكال فيه ؛ فإن قوله تعالى: ووهبنا له إسحاق ويعقوب أي: وهب الله لإبراهيم ولده إسحاق ، ثم من بعده : ولده يعقوب بن إسحاق .
قال تعالى : وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب أي: والكتب ؛ فدل الواحد على الجمع، يعني الكتاب الذي أنزل على موسى وداود وعيسى ومحمد صلى الله عليهم، فقد كانوا جميعا من ذرية إبراهيم .
وقد أتم الله منته على نبيه إبراهيم ، فالآية دالة أن الله -عز وجل- لم يبعث نبيًا من بعدِ إبراهيم إلا من صُلبه، وليس فيها تعرض لتقسيم الذرية ، أو نفي أن يكون في ذريته كافر، وإلا فلو كان كذلك لكان إيتاء النبوة والكتاب لكل ذريته ، وهذا ما لا يقال مثله !
انظر: “الهداية” لمكي (9/ 5619) ، “التفسير البسيط” (17/ 515).
قال ابن كثير (6/ 275): ” وقوله: وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب، هذه خِلْعة سنية عظيمة، مع اتخاذ الله إياه خليلا ، وجعله للناس إماما : أن جعل في ذريته النبوة والكتاب، فلم يوجد نبي بعد إبراهيم عليه السلام، إلا وهو من سلالته، فجميع أنبياء بني إسرائيل من سلالة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، حتى كان آخرهم عيسى ابن مريم، فقام في ملئهم مبشرا بالنبي العربي القرشي الهاشمي، خاتم الرسل على الإطلاق، وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، الذي اصطفاه الله من صميم العرب العرباء، من سلالة إسماعيل بن إبراهيم، عليهم السلام: ولم يوجد نبي من سلالة إسماعيل سواه، عليه أفضل الصلاة والسلام من الله تعالى ” انتهى .
ثانيًا:
إذا تبين ذلك ، علمنا أنه الآية لا تعرض فيها أصلا لحال “جميع” ذرية إبراهيم عليه السلام ، بل كل ما قررته أن جميع من أتى بعد إبراهيم عليه السلام من الأنبياء : هم من نسل إبراهيم عليه السلام .
ولا يمنع ذلك أن يكون من نسله أيضا : من هو ظالم لنفسه بالعصيان ، بل بالكفر برب العالمين ، كما هو واقع ومعروف .
وقد قال الله تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ البقرة/ 124.
وقال تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ الصافات/113.
عن الربيع، قال: ” قال الله لإبراهيم: لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ البقرة/ 124 ، فقال: فعهد الله الذي عهد إلى عباده: دينُه.
يقول: لا ينال دينُه الظالمين، ألا ترى أنه قال: وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين ؛ يقول: ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق ” انتهى من “تفسير الطبري”(2/ 515).
وقال ابن عاشور: ” ولما ذكر ما أعطاهما ، نقل الكلام إلى ذريتهما فقال: ومن ذريتهما محسن، أي عامل بالعمل الحسن، وظالم لنفسه ، أي : مشرك غير مستقيم . للإشارة إلى أن ذريتهما ليس جميعها كحالهما ؛ بل هم مختلفون ، فمن ذرية إبراهيم أنبياء وصالحون ومؤمنون ، ومن ذرية إسحاق مثلهم، ومن ذرية إبراهيم من حادوا عن سَنَن أبيهم ، مثل مشركي العرب، ومن ذرية إسحاق كذلك ، مثل من كفر من اليهود بالمسيح وبمحمد صلى الله عليهما .
ونظيره قوله تعالى: قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين في سورة البقرة [124].
وفيه تنبيه : على أن الخبيث والطيب لا يجري أمرهما على العرق والعنصر ، فقد يلد البر الفاجر ، والفاجر البر .
وعلى أن فساد الأعقاب لا يعد غضاضة على الآباء .
وأن مناط الفضل ، هو خصال الذات ، وما اكتسب المرء من الصالحات .
وأما كرامة الآباء : فتكملة للكمال ، وباعث على الاتسام بفضائل الخلال .
فكان في هذه التكملة : إبطال غرور المشركين بأنهم من ذرية إبراهيم – وإنها مزية ، لكن لا يعادلها الدخول في الإسلام – . وأنهم الأولى بالمسجد الحرام”، انتهى من “التحرير والتنوير” (23/ 162).
وتأمل قوله سبحانه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ الحديد/26 ؛ يتبين لك المقصود بوضوح وجلاء ، ويتبين لك أنه لا إشكال في الآيتين أصلا .
والله أعلم
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب