أشكل علي فهم هذا الحديث ، ورأيت أن الأباضية ينكرون ويطعنون في صحة هذا الحديث الذي رواه مسلم والإمام مالك ، وأورده الشيخ الألباني في “السلسلة الصحيحة” (1904) ، الحديث: (الشاهد يرى ما لا يرى الغائب) “صحيح” ، فعن علي قال : ” أكثر على مارية أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم في قبطي ، ابن عم لها ، كان يزورها ، ويختلف إليها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لي : (خذ هذا السيف فانطلق إليه فإن وجدته عندها فاقتله) ، فقلت : يا رسول الله أكون في أمرك إذا أرسلتني كالسكة المحماة لا يثنيني شيء حتى أمضي لما أرسلتني به ، أو الشاهد يرى ما لا يرى الغائب قال ( فذكره ) فأقبلت متوشحا السيف ، فوجدته عندها ، فاخترطت السيف ، فلما أقبلت نحوه عرف أني أريده فأتى نخلة فرقى فيها ، ثم رمى بنفسه على قفاه ، وشفر برجليه ، فإذا هو أجب أمسح ما له ما للرجال قليل ولا كثير ، فأغمدت سيفي ، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال : (الحمد لله الذي يصرف عنا أهل البيت) وسنده جيد . سؤالي هل النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل هذا القبطي بظن أو بكلام الناس ؟ وآمل منكم شرحه .
إشكال حول الأمر بقتل القبطي ابن عم مارية القبطية .
السؤال: 298224
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
عَنْ أَنَسٍ: ” أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُتَّهَمُ بِأُمِّ وَلَدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: اذْهَبْ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ .
فَأَتَاهُ عَلِيٌّ فَإِذَا هُوَ فِي رَكِيٍّ يَتَبَرَّدُ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: اخْرُجْ، فَنَاوَلَهُ يَدَهُ فَأَخْرَجَهُ، فَإِذَا هُوَ مَجْبُوبٌ لَيْسَ لَهُ ذَكَرٌ، فَكَفَّ عَلِيٌّ عَنْهُ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّهُ لَمَجْبُوبٌ مَا لَهُ ذَكَرٌ ” رواه مسلم (2771).
حاول البعض تضعيف الحديث بغير سبب معتمد.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
” وقد أشكل هذا القضاء على كثير من الناس، فطعن بعضهم في الحديث، ولكن ليس في إسناده من يتعلَّق عليه ” انتهى من “زاد المعاد” (5 / 15).
والحديث لم يفصل القصّة؛ ولم يبسط تفاصيل التهمة التي وجهت لهذا الرجل، ومن كان يتهمه، وكيف علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
لكن المقطوع به أن الأمر بقتله ليس كحد للفاحشة ؛ لأن حد فاحشة الزنا ليس بضرب العنق، وإنما سبب الأمر بالقتل هو تعزيره على مجرد دخوله على أم ولد النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث إنه بدخوله على أم ولده، أدخل التهمة إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم وفراشه ؛ وهو أذى كبير يبيح دم المؤذي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
” فهذا الرجل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه ، لما قد استحل من حرمته، ولم يأمر بإقامة حد الزنا؛ لأن حد الزنا ليس هو ضرب الرقبة، بل إن كان محصنا رجم، وإن كان غير محصن جلد، ولا يقام عليه الحد إلا بأربعة شهداء أو بالإقرار المعتبر، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه، من غير تفصيل بين أن يكون محصنا أو غير محصن؛ علم أن قتله لما انتهكه من حرمته ” انتهى من “الصارم المسلول” (2 / 122).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
” وأحسن من هذا أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليا رضي الله عنه بقتله تعزيرا ، لإقدامه وجرأته على خلوته بأم ولده، فلما تبين لعلي حقيقة الحال، وأنه بريء من الريبة، كف عن قتله، واستغنى عن القتل بتبيين الحال، والتعزير بالقتل ليس بلازم كالحد ، بل هو تابع للمصلحة دائر معها وجودا وعدما ” انتهى من “زاد المعاد” (5 / 15).
وأما كيف علم النبي صلى الله عليه وسلم بدخوله؟
فالأخبار لم تفصّل الحادثة، ولم تذكر ما يتعارض ظاهره مع قواعد الشرع، فلا يظهر إشكال في القصة؛ لأن هناك محامل كثيرة معقولة يحمل عليها تصرف النبي صلى الله عليه وسلم؛ كأن يكون ثبت دخول هذا الشخص بشهادة العدول من أصحابه رضوان الله عليهم، أو اطلع النبي صلى الله عليه وسلم على دخوله ، ونهاه فلم ينته ، ونحو هذا من المحامل المعقولة.
قال المازري رحمه الله تعالى:
” الظاهر أن هذا الحديث فيه حذف بَسط السبب؛ فلعلّه صلى الله عليه وسلم ثبت عنده بالبينَة ما أوجب قتله، فلما رأى عليّ كونه مجبوبا، أبقاه ليراجع النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه، ولم يذكر ما قال له عليّ، ولو ذكر السّبب الموجب لقتله ، وجواب النبي عليه السلام لعليّ ، لعلم منه وجه الفقه.
ولعل الرجل أيضا كان منافقا ممن يحلّ قتله فيكون هذا السبب محركا على قتله ” .
انتهى من “المعلم” (3 / 342).
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى:
” قد نزه الله حرمة النبى صلّى اللّه عليه وسلّم أن يثبت شيء من ذلك في جهتها، والخبر معلوم أنه كان قبطيا، وكان يتحدث إليها بحكم الجنسية، فتكلم في ذلك، ولم يأت أنه أسلم، وأن النبي نهاه عن التحدث إليها، فلما خالفه استحق بذلك القتل؛ إما للمخالفة ، أو لتأذي النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بسببه، ومن آذى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بشيء: ملعون كافر استحق القتل ” انتهى من “اكمال المعلم” (8 / 304).
وقال ابن رجب رحمه الله تعالى:
” وقد حمله بعضهم على أن القبطي لم يكن أسلم بعد، وأن المعاهد إذا فعل ما يؤذي المسلمين، انتقض عهده، فكيف إذا آذى النبي صلى الله عليه وسلم؟
وقال بعضهم: بل كان مسلما، ولكنه نهي عن ذلك فلم ينته، حتى تكلم الناس بسببه في فراش النبي صلى الله عليه وسلم، وأذى النبي صلى الله عليه وسلم في فراشه، مبيح للدم.
لكن لما ظهرت براءته بالعيان، تبين للناس براءة مارية، فزال السبب المبيح للقتل ” انتهى من ” جامع العلوم والحكم ” ( 312).
ويدل على احتياط النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة هذا الشخص: أنه ورد في رواية أنه قيّد ضرب عنقه بأن يجده عندها، بما يثبت جرمه.
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى:
” في هذا اللفظ إشكال ، وهو : أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كيف يأمر بضرب عنق هذا الرجل ، ولم يكن هناك موجبٌ للقتل، وقد ظهر ذلك حين انكشف حال الرَّجل ؟
ويزول هذا الإشكال : بأن هذا الحديث رواه أبو بكر البزار ، بمساق أكمل من هذا، وأوضح ، فقال فيه: عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه قال : ( كثر على مارية في قبطي ابن عم لها كان يزورها، ويختلف إليها، فقال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : خذ هذا السيف فانطلق، فإن وجدته عندها فاقتله، قال : قلت : يا رسول الله! أكون في أمرك كالسِّكة المحماة، لا يثنيني شيء، حتى أمضي لما أمرتني، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ فقال: بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ).
فهذا يدل: على أن أمره بقتله، إنَّما كان بشرط أن يجده عندها، على حالة تقتضي قتله. ولما فهم عنه علي رضى الله عنه ذلك سأله ، فبيَّن له بيانا شافيا، فزال ذلك الإشكال ” انتهى من “المفهم” (5 / 146).
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب