نسمع دائماً هذه الجملة (الجوع كافر)، تقال للدلالة على أن الجوع قد يؤذي الإنسان إلى حدٍ كبير، وقد قيل لي : إن هذه الجملة لا تجوز؛ لأن الجوع جند من جنود الله، وبناءاً عليه لا يجوز وصف جند الله تعالى بالكفر، واستدل بهذه الآية ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)، فما حكم الشرع في ذلك؟
حكم مقولة: الجوع كافر.
السؤال: 314506
Table Of Contents
أولا: أصل مقولة الجوع كافر والمراد بها
مقولة: “الجوع كافر” : من المعقول أن الجوع هو حال من الأحوال ، لا يتصور أن يقوم به إيمان أو كفر.
والظاهر أن المراد بوصف (كافر) في حق (الجوع) : أصل إطلاقه اللغوي، بمعنى : (ساتر) .
قال الإمام ابن فارس رحمه الله:
” (كَفَرَ) الْكَافُ وَالْفَاءُ وَالرَّاءُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ السَّتْرُ وَالتَّغْطِيَةُ. يُقَالُ لِمَنْ غَطَّى دِرْعَهُ بِثَوْبٍ: قَدْ كَفَرَ دِرْعَهُ. وَالْمُكَفِّرُ: الرَّجُلُ الْمُتَغَطِّي بِسِلَاحِهِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ:
حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ … وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا
فَيُقَالُ: إِنَّ الْكَافِرَ: مَغِيبُ الشَّمْسِ. وَيُقَالُ: بَلِ الْكَافِرُ: الْبَحْرُ. وَكَذَلِكَ فُسِّرَ قَوْلُ الْآخَرِ:
فَتَذَكَّرَا ثَقَلًا رَثِيدًا بَعْدَمَا … أَلْقَتْ ذُكَاءُ يَمِينَهَا فِي كَافِرِ
وَالنَّهْرُ الْعَظِيمُ كَافِرٌ، تَشْبِيهٌ بِالْبَحْرِ. وَيُقَالُ لِلزَّارِعِ كَافِرٌ، لِأَنَّهُ يُغَطِّي الْحَبَّ بِتُرَابِ الْأَرْضِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ [الحديد: 20] . وَرَمَادٌ مَكْفُورٌ: سَفَتِ الرِّيحُ التُّرَابَ عَلَيْهِ حَتَّى غَطَّتْهُ. قَالَ:
قَدْ دَرَسَتْ غَيْرَ رَمَادٍ مَكْفُورْ
وَالْكُفْرُ: ضِدُّ الْإِيمَانِ، سُمِّيَ لِأَنَّهُ تَغْطِيَةُ الْحَقِّ. وَكَذَلِكَ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ: جُحُودُهَا وَسَتْرُهَا.”. انتهى، من “مقاييس اللغة” (5/191).
وقال الزمخشري رحمه الله:
“ك ف ر كفر الشيء وكفّره : غطّاه يقال : كفر السحاب السماء وكفر المتاع في الوعاء وكفر الليل بظلامه وليل كافر .
ولبس كافر الدروع وهو ثوب يلبس فوقها .
وكفرت الريح الرّسم والفلاح الحب ومنه قيل للزرّاع : الكفار .
وفارس مكفّر ومتكفّر وكفّر نفسه بالسلاح وتكفّر به .
قال ابن مفرّغ : حمى جاره بشر بن عمرو بن مرثد بألفي كميٍّ في السلاح مكفّر وتكفّر بثوبك : اشتمل به .
وطائر مكفر : مغطّى بالريش .
قال : فأبت إلى قوم تريح نساؤهم عليها ابن عرس والأوزّ المكفّرا وغابت الشمس في الكافر وهو البحر .
ورجل مكفّر وهو المحسان الذي لا تشكر نعمته ..” انتهى من “أساس البلاغة” (2/306).
ووصف الجوع بأنه (كافر) ، بهذا الاعتبار : أمر معقول ظاهر من أحوال الناس ؛ فإن الجوع متى اشتد بالمرء غطى على عقله ، وقصده وإرادته ، وصار معه كالغضب الشديد ، الذي يغلق عليه فهمه وقصده .
ولذلك ذكروا في آداب القاضي ألا يقضي وبه من الجوع ما يشوش عليه فكره .
قال ابن رشد الجد ، رحمه الله:
” ولا ينبغي للقاضي أن يقضي بين الخصمين- وبه من الضجر أو الغضب أو الجوع أو الهم ما يخاف على فهمه منه الإبطاء والتقصير، وما كان من ذلك كله خفيفا لا يضر به في فهمه، فلا بأس أن يقضي وذلك به.” انتهى من “المقدمات الممهدات” (2/267).
وقال الشيخ زكريا الأنصاري رحمه الله:
” (ولا يقضي) أي يكره أن يقضي (في حال تغير الخلق بنحو غضب وجوع وامتلاء) أي شبع (مفرطين ومرض مؤلم وخوف مزعج وحزن وفرح شديدين ومدافعة خبث) وغلبة نعاس لخبر الصحيحين لا يحكم أحد بين اثنين، وهو غضبان رواه ابن ماجه بلفظ لا يقضي القاضي وفي صحيح أبي عوانة لا يقضي القاضي، وهو غضبان مهموم ولا مصاب محزون ولا يقضي وهو جائع.. ” انتهى، من “أسنى المطالب” (4/297).
وربما لاحظ الناس – أيضا – في هذا الإطلاق أثر الجوع وبأسه من وجه آخر؛ فإنه من شدته ربما يفتتن الشخص ، فيتسخط وينطوي قلبه ويتلفظ لسانه بما يخرجه من الإسلام، وربما يرتكب ما يكفر به رغبة في إدراك ما يزيل به الجوع عنه وعن عياله .
فالفقر له فتنة؛ ولذا أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى التعوذ منها.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الكَسَلِ وَالهَرَمِ، وَالمَأْثَمِ وَالمَغْرَمِ، وَمِنْ فِتْنَةِ القَبْرِ، وَعَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الغِنَى، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الفَقْرِ … رواه البخاري (6368) ومسلم (589).
قال بدر الدين العيني رحمه الله تعالى:
” قوله: ( وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الفَقْرِ )؛ لأنه ربما يحمله على مباشرة ما لا يليق بأهل الدين والمروءة، ويهجم على أي حرام كان ولا يبالي، وربما يحمله على التلفظ بكلمات تؤديه إلى الكفر ” انتهى. “عمدة القاري” (23 / 5).
فالحاصل؛ أن معنى هذا القول ليس فيه ما يستشكل.
قال العجلوني رحمه الله تعالى:
” ( الجوع كافر، وقاتله من أهل الجنة ).
قال في “المقاصد”: كلام يدور في الأسواق، أي وليس بحديث كما في “التمييز”، ورواه القاري بلفظ: ( الجوع كافر، ولا يرحم على صاحبه في حاله، وقاتله من أهل الجنة ) أي: دافعه عن مسلم مضطر من أهل الجنة.
ومعناه صحيح، وأما مبناه فكما قال ابن الديبع: إنه كان – لعل صوابه كلام – يدور في الأسواق، وليس بحديث ” انتهى من “كشف الخفاء” (1 / 337).
ثانيا: ما يرسله من الله من العقوبات لا يلزم أن تكون منزلة شريفة
كون الشيء يرسله الله عقوبة؛ لا يلزم من هذا أن يكون له منزلة شريفة كمنزلة جند الله من الملائكة، فلا يوجد على هذا دليل يعتمد؛ فالله تعالى قد يعاقب عباده بأمور ليست لها حرمة في الشرع.
فقد عاقب آل فرعون بالدم، وهو نجس.
قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ إلى قوله تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ الأعراف/130 – 133.
وعاقب بني إسرائيل بعباد من أهل الكفر.
قال الله تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا الإسراء/4 – 5.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
” ( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ ) بعثا قدريا، وسلطنا عليكم تسليطا كونيا جزائيا ( عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) أي: ذوي شجاعة وعدد وعدة، فنصرهم الله عليكم، فقتلوكم وسبوا أولادكم ونهبوا أموالكم، وجاسوا خلال دياركم فهتكوا الدور ودخلوا المسجد الحرام وأفسدوه. ( وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا ) لا بد من وقوعه، لوجود سببه منهم.
واختلف المفسرون في تعيين هؤلاء المسلطين، إلا أنهم اتفقوا على أنهم قوم كفار ” انتهى من “تفسير السعدي” (ص 453).
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب