يقول تعالي: ﴿فَأَمَّا الَّذينَ شَقوا فَفِي النّارِ لَهُم فيها زَفيرٌ وَشَهيقٌ خالِدينَ فيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالأَرضُ إِلّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعّالٌ لِما يُريدُ وأَمَّا الَّذينَ سُعِدوا فَفِي الجَنَّةِ خالِدينَ فيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالأَرضُ إِلّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيرَ مَجذوذٍ﴾ هود/١٠٦-١٠٨.
أود أن أعرف هل تعني ما دامت السماوات والأرض أن السماوات والأرض ستبقى أبدا أم ستزول؟ وهل لو زالت أي لم تدم فيها لن يخلد أهل النار في النار ولا أهل الجنة في الجنة بعدها ؟
هل قوله تعالى ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك) يفيد فناء الجنةوالنار؟
السؤال: 529703
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولاً:
الأصل الأول الذي يجب على المسلم معرفته: أنّ النصوص القطعية المحكمة دلت على الخلود الأبدي للكفار في النار، والخلود الأبدي للمؤمنين في الجنة، وأنّ الجنة والنار لا تفنيان، وهذه عقيدة أهل السنة التي أجمعوا عليها.
فمن تلك النصوص التي تبيّن خلود أهل النار:
قال اللهُ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (١٦٨) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا النساء/168-169.
وقال اللهُ سُبحانه: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (٦٤) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا الأحزاب/64-65.
وقال تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا الجن/23.
قال ابن كثير رحمه الله بعد أن ذكر الآيات الثلاث السابقة:
«فَهَذِهِ ثَلَاثُ آيَاتٍ، فِيهِنَّ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ أَبَدًا، لَيْسَ لَهُنَّ رَابِعَةٌ مِثْلُهُنَّ فِي ذَلِكَ” انتهى من “البداية والنهاية” (20/ 254).
وأما خلود أهل الجنة.
فقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا النساء/122.
وقال تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (٤٧) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ الحجر/ 47-48.
قال ابن جرير رحمه الله: “وما هم من الجنة ونعيمها وما أعطاهم الله فيها بمخرجين، بل ذلك دائم أبدا” انتهى من “تفسير الطبري” (14/ 81).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله “
«أما الجنة: فبالإجماع أنها مؤبدة لا تفنى، والآيات في هذا كثيرة، فما أكثر ما نتلو قول الله تعالى في أهل الجنة: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً) ، وهو محل إجماع.
وأما النار فمحل إجماع أنها مؤبدة، إلا خلافاً يسيرا ذهب إليه بعض العلماء رحمهم الله، وهو مرجوح؛ بل لا وزن له.
والصحيح الذي لا شك فيه: أن النار مؤبدة، دائماً، وأبداً؛ لقول الله تبارك وتعالى في آيات ثلاث في كتابه: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً) (النساء: الآية 169)؛ فقال جل وعلا في سورة النساء: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً) (النساء: 168) (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً) (النساء: الآية 169).
وتأبيد الخالد، يدل على تأبيد مكان الخلود ضرورةً؛ وإلا فكيف يكون خالداً في غير محل؟! هذا مستحيل.
وثبت في السنة: أنه يؤتى يوم القيامة بالموت فيوقف في مكان بين الجنة والنار، فيقال يا أهل الجنة. يا أهل النار. فيشرئبون ويطلعون، فيقال لهم: هل تعرفون هذا؟ فيقوون: نعم، هذا الموت، فيذبح، ويقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت” انتهى من “شرح العقيدة السفارينية” (1/ 500-501).
وقد نص الأئمة الذين نقلوا عقيدة السلف على أنّ الجنة والنار لا تفنيان؛ وهو أمر متقرر عند السلف، لا نزاع فيه.
فقد روى اللالكائي بسنده قال: “….حدثنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم ، قال: سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين ، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار ، وما يعتقدان من ذلك ، فقالا: ” أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازا وعراقا وشاما ويمنا فكان من مذهبهم: الإيمان قول وعمل ، يزيد وينقص، ……، وأنّ الجنة حق والنار حق وهما مخلوقان لا يفنيان أبدا ، والجنة ثواب لأوليائه ، والنار عقاب لأهل معصيته إلا من رحم الله عز وجل” انتهى من “شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة” (1/ 198).
وقال الكرماني رحمه الله: “وقد خُلقتِ الجنة وما فيها، وخُلقتِ النار وما فيها، خلقهما الله عَزَّ وَجَلَّ، ثم خلق الخلق لهما، لا يفنيان ولا يفنى ما فيهما أبدًا” انتهى من “إجماع السلف في الاعتقاد” (ص53).
وقال البربهاري رحمه الله: “والإيمان بأن الجنة حق والنار حق، والجنة والنار مخلوقتان…، لا تفنيان أبدا، هما مع بقاء الله تبارك وتعالى أبد الآبدين، في دهر الداهرين” انتهى من “شرح السنة للبربهاري” (ص48).
وقال الآجري رحمه الله: “الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَخْلُوقَتَانِ وَأَنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ لَا يَنْقَطِعُ عَنْ أَهْلِهَا أَبَدًا وَأَنَّ عَذَابَ النَّارِ لَا يَنْقَطِعُ عَنْ أَهْلِهَا أَبَدًا” انتهى من “الشريعة للآجري” (3/ 1343).
وقال القرطبي رحمه الله: “وأجمع أهل السنة على أنّ أهل النار مخلدون فيها غير خارجين منها: كإبليس، وفرعون، وهامان، وقارون، وكل من كفر وتكبر وطغى، فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا. وقد وعدهم الله عذاباً أليماً، فقال عز وجل {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب}.
وأجمع أهل السنة أيضاً: على أنه لا يبقى فيها مؤمن، ولا يخلد إلا كافر جاحد” انتهى من “التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة” (ص920).
ثانياً:
إذا تقرر هذا الأصل المحكم، فإنه يجب رد ما اشتبه على الإنسان من النصوص إليه، وهذه قاعدة متقررة عند أهل العلم. بأنهم يردون المتشابه إلى المحكم.
وما قد يظهر لبعض الناس من التعارض بين بعض الآيات إنما هو فيما يظهر للبعض لا بين الآيات في حقيقة الأمر، وسبب حصول هذا التعارض، وذلك بسبب عدم فهم الشخص لمدلولات ألفاظ النص ومعرفة تفسير الآية، أو اشتباه في الدلالة في الآيات المتشابهة، وأحياناً لعدم استيعابه للنصوص المقيِدة لما هو مطلق، أو تخصيص ما هو عام، أو ناسخ ومنسوخ ونحو ذلك.
قال ابن القيم رحمه الله:
“وأما طريقة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ــ كالشافعي والإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة وأبي يوسف والبخاري وإسحاق: أنهم يردُّون المتشابه إلى المحكم، ويأخذون من المحكم ما يفسِّر لهم المتشابه ويبيِّنه لهم، فتتفق دلالته مع دلالة المحكم، وتوافق النصوص بعضها بعضًا، ويصدّق بعضها بعضًا، فإنها كلها من عند الله، وما كان من عند الله، فلا اختلاف فيه ولا تناقض، وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره” انتهى “أعلام الموقعين” (3/ 195).
وقال أيضًا: “إنّ الله سبحانه قسم الأدلة السمعية إلى قسمين: مُحكَم ومتشابِه، وجعل المُحكَم أصلًا للمتشابه وأُمًّا له يُردُّ إليه. فما خالف ظاهر المحكم فهو متشابه يُردُّ إلى المحكم.
وقد اتفق المسلمون على هذا، وأن المحكم هو الأصل، والمتشابه مردودٌ إليه” انتهى من “الصواعق المرسلة” (1/ 454).
ثالثاً:
أما ما أشكل عليك في تفسير الآية الكريمة فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ هود/106 – 107.
فقد أجاب المفسرون عن الإشكال، الذي قد يفهم منه احتمال فناء الجنة والنار.
وأبرز ما قالوه في بيان معنى الآية بما يزول به اللبس:
1- أنّ المراد بقوله (خالدين فيها ما دامت السموات والارض): بأن القرآن نزل بلغة العرب التي يفهمونها، وقد جرت عادة العرب أنهم إذا أرادوا التعبير عن خلود الشيء قالوا إنه باق ما بقيت السموات والأرض.
قال الطبري رحمه الله في تفسير الآية الكريمة:
“وذلك أن العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبدا، قالت: هذا دائم دوام السموات والأرض؛ بمعنى أنه دائم أبدا، وكذلك يقولون: هو باقٍ ما اختلف الليلُ والنهار، وما سمَر لنا سمير، وما لألأت العُفْر بأذنابها، يعنون بذلك كله أبدا.
فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفون به بينهم، فقال: {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض}. والمعنى في ذلك: خالدين فيها أبدا» “تفسير الطبري جامع البيان – ط هجر” (12/ 578):
وقال البغوي رحمه الله:
“وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: هَذَا عِبَارَةٌ عَنِ التَّأْبِيدِ، عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ، يَقُولُونَ: لَا آتِيكَ ما دامت السموات وَالْأَرْضُ، وَلَا يَكُونُ كَذَا مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، يَعْنُونَ: أَبَدًا” انتهى من “تفسير البغوي” (4/ 200).
وقال ابن عطية رحمه الله:
“معنى قوله ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ العبارة عن التأبيد بما تعهده العرب، وذلك أن من فصيح كلامها إذا أرادت أن تخبر عن تأبيد شيء، أن تقول: لا أفعل كذا وكذا مدى الدهر، وما ناح الحمامُ وما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ، ونحو هذا، مما يريدون به طولا من غير نهاية، فأفهمهم الله تعالى تخليد الكفرة بذلك، وإن كان قد أخبر بزوال السماوات والأرض” انتهى من “تفسير ابن عطية” (3/ 208).
وقال القرطبي رحمه الله:
“أراد به السماء والأرض المعهودتين في الدنيا. وأجرى ذلك على عادة العرب في الإخبار عن دوام الشيء وتأبيده، كقولهم: لا آتيك ما جَن ليل، أو سال سيل، وما اختلف الليل والنهار، وما ناح الحمام، وما دامت السموات والأرض، ونحو هذا؛ مما يريدون به طُولا من غير نهاية، فأفهمهم الله تخليد الكفرة بذلك” انتهى من “تفسير القرطبي” (9/ 99).
2- ذهب بعض أهل التفسير إلى أن المراد دوام السماوات والأرض التي في الآخرة، فإن فيها سماءً وأرضا، غير سمائنا أرضنا.
قال الزمخشري رحمه الله: “(ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) فيه وجهان، أحدهما: أن تراد سموات الآخرة وأرضها، وهي دائمة مخلوقة للأبد. والدليل على أنّ لها سمواتٍ وأرضًاً قوله تعالى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ)، وقوله: (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ).
ولأنه لا بدّ لأهل الآخرة مما يُقِلهم ويُظلهم: إمّا سماء يخلقها الله، أو يظلهم العرش، وكل ما أظلك فهو سماء.
والثاني: أن يكون عبارةً عن التأبيد ونفي الانقطاع، كقول العرب: ما دام تعار[=جيل معروف]، وما أقام ثبير، وما لاح كوكب، وغير ذلك من كلمات التأبيد” انتهى «تفسير الكشاف” (2/ 430).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رَحمَه الله:
“قال طوائف من العلماء إن قوله: {ما دامت السماوات والأرض} أراد بها سماء الجنة، وأرض الجنة. كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة وسقفه عرش الرحمن}.
وقال بعض العلماء في قوله تعالى {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون}: هي أرض الجنة.
وعلى هذا؛ فلا منافاة بين انطواء هذه السماء، وبقاء السماء التي هي سقف الجنة؛ إذ كلُّ ما علا، فإنه يسمى في اللغة سماءً، كما يسمى السحاب سماء والسقف سماء” انتهى من “مجموع الفتاوى” (15/ 109).
وقال ابن كثير رحمه الله بعد أن أورد قول ابن جرير السابق ذكره:
“ويحتمل أن المراد بما دامت السموات والأرض: الجنس؛ لأنه لا بد في عالم الآخرة من سموات وأرض، كما قال تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات} [إبراهيم:48]؛ ولهذا قال الحسن البصري في قوله: {ما دامت السماوات والأرض} قال: تبدل سماء غير هذه السماء، وأرض غير هذه الأرض، فما دامت تلك السماء وتلك الأرض.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس قوله: {ما دامت السماوات والأرض} قال: لكل جنة سماء وأرض” وجاء في «تفسير ابن كثير – ت السلامة» (4/ 351):
وقال الشوكاني رحمه الله:
“وقد اختلف العلماء في بيان معنى هذا التوقيت، لأنه قد علم بالأدلة القطعية تأبيد عذاب الكفار في النار، وعدم انقطاعه عنهم، وثبت أيضا أنّ السموات والأرض تذهب عند انقضاء أيام الدنيا:
فقالت طائفة: إن هذا الإخبار جارٍ على ما كانت العرب تعتاده، إذا أرادوا المبالغة في دوام الشيء…،
وقيل: إن المراد سموات الآخرة وأرضها، فقد ورد ما يدل على أن للآخرةِ سمواتٍ وأرضًا غيرَ هذه الموجودة في الدنيا، وهي دائمة بدوام دار الآخرة.
وأيضا لا بد لهم من موضع يقلهم، وآخر يظلهم، وهما أرض وسماء” انتهى من “فتح القدير” (2/ 595).
رابعا:
وأما الاستثناء في قوله تعالى: (إِلَاّ ما شاءَ رَبُّكَ): فقد بينوا معناه بما يتوافق مع المحكم من الآيات، الدال على الخلود الأبدي للكافرين في النار وللمؤمنين في الجنة.
وأشهر ما قيل فيه: أن الاستثناء من الخلود لأهل التوحيد الذين سيخرجون من النار بعد أن يعذبهم الله بذنوبهم، كما ثبت في السنة الصحيحة، فهو استثناء للمؤمنين من خلودهم في النار مع أهل الشقاء، واستثناء من كونهم في الجنة من أول الأمر مع السعداء.
قال البغوي رحمه الله:
“الِاسْتِثْنَاءُ فِي أَهْلِ الشَّقَاءِ: يَرْجِعُ إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، يُدْخِلُهُمُ اللَّهُ النَّارَ بِذُنُوبٍ اقْتَرَفُوهَا، ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا فيكون ذلك أاسْتِثْنَاءً مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، لِأَنَّ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ: سُعَدَاءُ، اسْتَثْنَاهُمُ اللَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْقِيَاءِ. وعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَيُصِيبَنَّ أَقْوَامًا سَفْعٌ مِنَ النَّارِ بِذُنُوبٍ أَصَابُوهَا، عُقُوبَةً، ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ، فَيُقَالُ لَهُمُ: الْجَهَنَّمِيُّونَ).
و[عن] عِمْرَان بْن حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَيُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّينَ”.
وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فِي أَهْلِ السَّعَادَةِ: فَيَرْجِعُ إِلَى مُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي النَّارِ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ” انتهى باختصار يسير من “تفسير البغوي” (4/ 200).
وقال ابن كثير رحمه الله:
“وقوله: {إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} كقوله تعالى: {النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم} [الأنعام: 128].
وقد اختلف المفسرون في المراد من هذا الاستثناء، على أقوال كثيرة، حكاها الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في كتابه “زاد المسير”، وغيرُه من علماء التفسير، ونقل كثيرا منها الإمام أبو جعفر بن جرير، رحمه الله، في كتابه، واختار هو ما نقله عن خالد بن معدان، والضحاك، وقتادة، وأبي سنان، ورواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن أيضا: أن الاستثناء عائد على العصاة من أهل التوحيد، ممن يخرجهم الله من النار بشفاعة الشافعين، من الملائكة والنبيين والمؤمنين حين يشفعون في أصحاب الكبائر، ثم تأتي رحمة أرحم الراحمين، فتخرج من النار من لم يعمل خيرا قط، وقال يوما من الدهر: لا إله إلا الله. كما وردت بذلك الأخبار الصحيحة المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمضمون ذلك من حديث أنس، وجابر، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وغيرهم من الصحابة، ولا يبقى بعد ذلك في النار إلا من وجب عليه الخلود فيها ولا محيد له عنها. وهذا الذي عليه كثير من العلماء قديما وحديثا في تفسير هذه الآية الكريمة” “تفسير ابن كثير” (4/ 351):
وقال الشوكاني رحمه الله”
“قوله: إلا ما شاء ربك: قد اختلف أهل العلم في معنى هذا الاستثناء على أقوال:
الأول: أنه من قوله: (ففي النار)؛ كأنه قال: إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك. روى هذا أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري.
الثاني في الاستثناء: إنما هو للعصاة من الموحدين، وأنهم يخرجون بعد مدة من النار، وعلى هذا يكون قوله سبحانه: (فأما الذين شقوا): عاما في الكفرة والعصاة، ويكون الاستثناء من (خالدين)، وتكون ما بمعنى: مَنْ. وبهذا قال قتادة والضحاك وأبو سنان وغيرهم.
وقد ثبت بالأحاديث المتواترة، تواترا يفيد العلم الضروري بأنه يخرج من النار أهل التوحيد؛ فكان ذلك مخصصا لكل عموم” “فتح القدير للشوكاني” (2/ 595).
وذكر بعض أهل العلم توجيهات أخرى للاستثناء، وجمهور المفسرين على ما ذُكر آنفاً، كما نص عليه ابن كثير بقوله ” وهذا الذي عليه كثير من العلماء قديما وحديثا في تفسير هذه الآية الكريمة “.
ومما تقدم وتقرر من كلام أهل العلم من أئمة التفسير يتبيّن أن قوله تعالى (مادامت السموات والأرض…الآية): لا يعني فناء الجنة والنار وانتهاء النعيم والعذاب.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب