أبي كان مريضا بالذهان أو الفصام، لا أعلم اسم المرض بدقة، وكان على حد علمي لا يصوم رمضان، ولا أعلم عدد الأيام أو الشهور التي لم يصمها، وكان مدخنا، وكان أحيانا يحلف بالله كذبا، وكان يصلي جالسا، ويتيمم لا يتوضأ، أحيانا يتوضأ، ومع ذلك كان يسامح الناس بسهولة، وكان هينا لينا سهلا رحمه الله تعالى، هو توفي منذ أقل من شهر، وكان رائحته جميلة، نحسبه والله حسيبه مات على حسن خاتمة؛ لأنه قبل وفاته بيومين بدأ يصلي في المسجد، وأنا أريد أن أعرف هل على شيء فعله في الصيام أو في التقصير في هذه العبادات أم هو ليس مكلفا؟
وسؤالي الثاني:
نحن كنا نساعده في التقليل من السجائر، فكنا نأخذها ونعطيه بقدر قليل منها، فهل كان علينا إثم في ذلك؟
هل يلزم الصوم من يغيب عقله بسبب أمراض الشيخوخة؟
السؤال: 536692
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولاً:
لم يتضح لنا ما هو المرض الذي أصاب والدك رحمه الله، ولكن من سياق السؤال أنه كان ينسى أو يكون في حالة عقلية غير سوية.
وأيّا كان اسم المرض، فإذا كان والدكِ تمر به حالات لا يدرك معها ما حوله، أو تختلط عليه الأمور، ففي هذه لا يكون مكلفاً في الأوقات التي تصاحبه فيها الحالة، ولا يلزمه قضاء ما فاته من صوم أثناء تلك الحالة. ولا يطعم ولا يصام عنه .
لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ) رواه أبو داود (4403) وصححه الالباني. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَادَ فِيهِ: «وَالْخَرِفِ»
قال العظيم أبادي رحمه الله: "الخَرَف: فساد العقل من الكبر قال السبكي : يقتضي إنه زائد على الثلاثة، وهذا صحيح والمراد به الشيخ الكبير الذي زال عقله من كبر ، فإن الشيخ الكبير قد يعرض له اختلاط عقل يمنعه من التمييز ويخرجه عن أهلية التكليف ولا يسمى جنونا" انتهى من "عون المعبود" (12/ 52).
أما في الأوقات التي يكون فيها مدركاً ما حوله، فيكون فيها مكلفا تلزمه فيها التكاليف الشرعية.
فإن تعمد فيها أن يترك واجبا فالإثم عليه، فإذا لم يصم وهو عاقل قادر فلا يقضي عنه أحد، وتدعون لها بالمغفرة.
قال العمراني رحمه الله:
"قال الشافعي: وأقل زوال العقل: أن يكون مختلطًا، فيعزب عنه الشيء وإن قل، ثم يثوب إليه عقله. وإذا أفاق المجنون، أو المغمى عليه، أو من زال عقله بمباح لم يجب عليهم قضاء ما فاتهم من الصلوات، في حال زوال العقل " انتهى من "البيان في مذهب الإمام الشافعي" (2/ 12):
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
"فكل من ليس له عقل بأي وصف من الأوصاف فإنه ليس بمكلف، وليس عليه واجب من واجبات الدين لا صلاة ولا صيام ولا إطعام بدل صيام، أي: لا يجب عليه شيء إطلاقا، إلا ما استثني كالواجبات المالية، وعليه فالمهذري أي: المخرف لا يجب عليه صوم، ولا إطعام بدله لفقد الأهلية وهي العقل…
وكذلك من كان يجن أحيانا، ففي اليوم الذي يجن فيه لا يلزمه الصوم، وفي اليوم الذي يكون معه عقله: يلزمه" انتهى من "الشرح الممتع على زاد المستقنع" (6/ 323).
وجاء في " فتاوى اللجنة الدائمة " (المجموعة الثانية 5/ 21) – وقد سئلت عن فتاة تصاب من حين لآخر بنوبات الصرع الهستيري ، وتفكيرها محدود ، بمعنى : أنها تفكر وتتصرف بعقول الصغار.
فأجابوا: " إذا كانت هذه الفتاة تعقل أحيانا: فيجب عليها أداء الواجبات الشرعية من صلاة وصيام وغيرها حال عقلها. وأما في حال غياب عقلها، فإنه لا يجب عليها شيء من التكاليف الشرعية؛ لحديث : ( رفع القلم عن ثلاثة ) . . . وذكر منهم : ( وعن المجنون حتى يفيق )…" انتهى.
ثانياً:
وأما صلاته جالساً، أو من غير وضوء، والاكتفاء بالتيمم، فإن كان يفعل ذلك لأنه لا يستطيع القيام أو الوضوء، أو كان يشق عليه مشقة شديدة، ويرى أن فرضه التيمم: فلا حرج، وما يفعله الإنسان ديانة يُصدّق فيه ولا يطالب بغيره.
وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم أقوال الناس في أمورهم الدينية ولم يستفصل منهم في مواقف كثيره منها ما رواه البخاري (337) في حديث طويل وفيه: "وَنُودِيَ بالصلاة فصلى بالناس، فلما انفتل ممن صَلَاتِهِ، إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مُعْتَزِلٍ لَمْ يُصَلِّ مع القوم، قال: (ما معنك يَا فُلَانُ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ). قَالَ: أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلَا مَاءَ، قَالَ: (عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ، فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ)"انتهى.
وإن كان يصلي جالسا ويترك الوضوء وهو قادر عليه، فصلاته حينها غير صحيحة، وادعوا له بالمغفرة.
ثالثاً:
أما ما يتعلق بمساعدته في التخفيف من السجاير، وإعطائه كمية أقل: فليس عليكم فيه إثم، لأن ما تفعلونه لتحفيف الشر، ومساعدته على التخفيف من المعصية.
فمن المعلوم أن المدمن لا يستطيع غالباً التخلص مما أدمن عليه إلا بالتدريج، كما أن من القواعد المقررة في الشريعة أن الشر الذي لا يمكن إزالته بالكلية، فتخفيفه مطلوب.
وما فعلتم مع والدكم رحمه الله كان من هذا الباب فيُرجى لكم الأجر، ولا إثم عليكم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما " انتهى من " مجموع الفتاوى" (20/48).
وقال ابن القيم رحمه الله: "فإنكار المنكر أربع درجات:
الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.
الثانية: أن يقل وإن لم يُزل بجملته.
الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.
الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه.
فالدرجتان الأولَتَانِ مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة" انتهى من "إعلام الموقعين" (4/ 339).
رابعاً:
أما ما كان عليه من أخلاق ومسامحة للناس فلا شك أنّ هذا من المبشرات، ويُرجى له فيه خير عند الله. فقد جاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو عن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا) رواه البخاري (6035).
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: (مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي المِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الخُلُقِ، وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ (رواه الترمذي (2003)، وصححه الألباني.
خامساً:
أما ما كان يفعله من مخالفات: فإن ذلك في حال إدراكه، وقدرته على ضبط نفسه: فقد مضى إلى ربه، وأنتم فأكثروا له من الدعاء، فإن هذا أعظم ما ينتفع به الميت، وخاصة دعاء الولد لوالده بعد موته، وقد جاء التنصيص عليه في الحديث مع أنه ينتفع من دعاء المؤمنين عموما، ولذا شرعت صلاة الجنازة.
قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ الحشر/10.
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ: «إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ» رواه أبو داود (3199) وحسنه الألباني.
وعَنْ أبي هريرة أن رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ: إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ) مسلم (1631).
قال الشيخ ابن باز رحمه الله:
"فالدعاء ينفع الميت، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) وشرع الله صلاة الجنازة؛ لأن المسلمين يدعون للميت في صلاة الجنازة بعد التكبيرة الثالثة يستغفرون له ويترحمون عليه، فالدعاء ينفع الميت بإجماع المسلمين" انتهى "فتاوى نور على الدرب لابن باز" (14/ 292).
وبكل حال، فقد مضى والدكم إلى ربه، كما يمضي الناس كلهم، وهو سبحانه أرحم بعباده منكم، أرحم بهم من الوالدة بولدها، أرحم بهم من أنفسهم؛ فاحتسبوا عنده ميتكم، وأحسنوا الظن بربكم، وأكثروا من الدعاء له كل حين، فهو خير ما يصله منكم.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب