في أحد الحصص لمادة الفزياء تناقشت مع أستاذي حول الضروريات الخمس حيث قال هو أن حفظ النفس أولى من حفظ الدين وأنا قلت له أن حفظ الدين أولى لم يقتنع بما قلت له حيث استدل بأن الاسلام أباح للمريضين الامراض المزمنة (السكري……) طلب ادلة من القران والسنة وحجج لكبار الفقهاء (مثل ابن تيمية والشافعي وغيرهم من الفقهاء) لكي يقتنع وأنا أريد أن تعطني هذه الحجج وشرحها مع المصدر وجزاك الله خير الجزاء .
الضروريات الخمس والخلاف في تقديم حفظ الدين على حفظ النفس
السؤال: 307202
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
الضرورات الخمس هي: الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والمال. وزاد بعضه: العرض.
قال الزكشي رحمه الله: “وتنقسم المصلحة المعتبرة بحسب قوتها في ذاتها؛ أو بالنسبة لحاجة الإنسان إليها إلى: ضرورية، حاجية، تحسينية.
أولا: الضرورية: وهي ما لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت، لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج، وفوت حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين.
فهي التي تتضمن حفظ مقصود من المقاصد الخمسة وهي: حفظ الدين بشرعية القتل والقتال، فالقتل للردة وغيرها من موجبات القتل لأجل مصلحة الدين، والقتال في جهاد أهل الحرب، وحفظ النفس بشرعية القصاص، وحفظ العقل بشرعية الحد على شرب المسكر، وحفظ النسل بتحريم الزنا وإيجاب العقوبة عليه، وحفظ المال بإيجاب الضمان على المتعدي فيه، وبالقطع في السرقة، وهي المجموعة في قوله تعالى: يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن الآية.
وزاد الطوفي الحنبلي وتبعه التاج السبكي سادسا، وهو حفظ الأعراض، فإن عادة العقلاء بذل نفوسهم وأموالهم دون أعراضهم، وما فدي بالضروري، أولى أن يكون ضروريا” انتهى من تشنيف المسامع شرح جمع الجوامع (3/ 15).
ثانيا:
المشهور أن حفظ الدين يقدم على حفظ النفس، ولهذا شرع الجهاد في سبيل الله-وهو لحفظ الدين- مع أنه مظنة تلف النفوس والأموال.
قال الجلال المحلي في شرح جمع الجوامع (3/ 322): “(والضروري) ، وهو ما تصل الحاجة إليه حد الضرورة (كحفظ الدين) ، المشروع له قتل الكفار وعقوبة الداعين إلى البدع ، (فالنفس) أي حفظها، المشروع له القصاص، (فالعقل) أي حفظه، المشروع له حد السكر، (فالنسب) أي حفظه، المشروع له حد الزنا، (فالمال)، أي حفظه المشروع له حد السرقة وحد قطع الطريق، (والعرض)، أي حفظه المشروع له حد القذف. وهذا زاده المصنف، كالطوفي، وعطفه بالواو إشارة إلى أنه في رتبة المال، وعطف كلا من الأربعة قبله بالفاء، لإفادة أنه دون ما قبله في الرتبة” انتهى.
وعليه جرى في مراقي السعود، فقال:
دينٌ فنفسٌ ثم عقلٌ نسبُ * مالٌ؛ إلى ضرورةٍ تنتسبُ
ورتِّبنْ، ولتعطفنْ مُساويا * عِرْضا على المال، تكُنْ مُوافيا
فحفظها حَتْمٌ على الإنسان * في كل شِرْعَةٍ من الأديانِ
وينظر: مراقي السعود إلى مراقي السعود، ص349
وهذا الترتيب مسألة اجتهاد ، وفيه خلاف يظهر عند التطبيق.
قال ابن أمير الحاج رحمه الله: ” (ويقدم حفظ الدين) من الضروريات على ما عداه، عند المعارضة؛ لأنه المقصود الأعظم. قال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات: 56]، وغيره مقصود من أجله، ولأن ثمرته أكمل الثمرات، وهي نيل السعادة الأبدية، في جوار رب العالمين.
(ثم) يقدم حفظ (النفس) على حفظ النسب والعقل والمال، لتضمنه المصالح الدينية، لأنها إنما تحصل بالعبادات، وحصولها موقوف على بقاء النفس.
(ثم) يقدم حفظ (النسب) على الباقيين، لأنه لبقاء نفس الولد؛ إذ بتحريم الزنا لا يحصل اختلاط النسب، فينسب إلى شخص واحد، فيهتم بتربيته وحفظ نفسه، وإلا أهمل فتفوت نفسه لعدم قدرته على حفظها .
(ثم) يقدم حفظ (العقل) على حفظ المال؛ لفوات النفس بفواته، حتى إن الإنسان بفواته يلتحق بالحيوانات، ويسقط عنه التكليف، ومن ثمة وجب بتفويته، ما وجب بتفويت النفس، وهي الدية الكاملة. قلت: ولا يعرى كون بعض هذه التوجيهات مفيدة لترتيب هذه المذكورات، على هذا الوجه من التقديم والتأخير، من تأمّل .
(ثم) حفظ (المال. وقيل) يقدم (المال)، أي حفظه، فضلا عن حفظ النفس والعقل والنسب، (على) حفظ (الدين)، كما حكاه غير واحد، فكأن المصنف نبه بالأدنى على الأعلى، بطريق أولى، وقد كان الأحسن تقديم هذه الأربعة على الديني؛ لأنها حق الآدمي وهو مبني على الضيق والمشاحة، ويتضرر بفواته، والديني حق الله تعالى، وهو مبني على التيسير والمسامحة، وهو لغناه وتعاليه لا يتضرر بفواته، (ولذا) أي تقديم هذه على الديني (تُترك الجمعة والجماعة) وهما دينيان، (لحفظه)، أي المال، وهو دنيوي. (ولأبي يوسف: تُقطع) الصلاة (للدرهم)، ولفظ الخلاصة: ولو سرق منه أو من غيره درهم، يقطع الفرض والنفل ” انتهى من “التقرير والتحبير” (3/ 231).
فأنت ترى أن القول بتقديم حفظ النفس وجيه، وله أمثلة كثيرة، كجواز النطق بالكفر عند الإكراه، لحفظ النفس، وجواز أكل الميتة وشرب الخمر، عند الاضطرار، لأجل حفظ النفس، إضافة إلى ترك الجمعة والجماعة إذا خاف على نفسه من عدو أو سبع ونحوه.
وقد أطال الآمدي في الانتصار لتقديم حفظ أصل الدين، وأجاب عما يدل على خلافه.
ومن كلامه رحمه الله: ” فإن قيل: بل ما يفضي إلى حفظ مقصود النفس أولى وأرجح، وذلك لأن مقصود الدين حق الله تعالى، ومقصود غيره حق للآدمي، وحق الآدمي مرجح على حقوق الله تعالى لأنها مبنية على الشح والمضايقة، وحقوق الله تعالى مبنية على المسامحة والمساهلة، من جهة أن الله تعالى لا يتضرر بفوات حقه، فالمحافظة عليه أولى من المحافظة على حق لا يتضرر مستحقه بفواته، ولهذا رجحنا حقوق الآدمي على حق الله تعالى، بدليل أنه لو ازدحم حق الله تعالى وحق الآدمي في محل واحد، وضاق عن استيفائهما، بأن يكون قد كفر وقتل عمدا عدوانا، نقتله قصاصا، لا بكفره.
وأيضا قد رجحنا مصلحة النفس على مصلحة الدين، حيث خففنا عن المسافر بإسقاط الركعتين وأداء الصوم، وعن المريض بترك الصلاة قائما وترك أداء الصوم، وقدمنا مصلحة النفس على مصلحة الصلاة في صورة إنجاء الغريق، وأبلغ من ذلك أنا رجحنا مصلحة المال على مصلحة الدين، حيث جوزنا ترك الجمعة والجماعة ضرورة حفظ أدنى شيء من المال، ورجحنا مصالح المسلمين، المتعلقة ببقاء الذمي بين أظهرهم، على مصلحة الدين، حتى عصمنا دمه وماله، مع وجود الكفر المبيح.
قلنا: أما النفس فكما هي متعلق حق الآدمي بالنظر إلى بعض الأحكام، فهي متعلق حق الله تعالى بالنظر إلى أحكام أخر، ولهذا يحرم عليه قتل نفسه والتصرف بما يفضي إلى تفويتها، فالتقديم إنما هو لمتعلق الحقين، ولا يمتنع تقديم حق الله وحق الآدمي على ما تمحض حقا لله…
وأما التخفيف عن المسافر والمريض، فليس تقديما لمقصود النفس على مقصود أصل الدين، بل على فروعه، وفروع أصلٍ، غيرُ أصل الشيء.
ثم، وإن كان، فمشقة الركعتين في السفر تقوم مقام مشقة الأربع في الحضر، وكذلك صلاة المريض قاعدا بالنسبة إلى صلاته قائما وهو صحيح، فالمقصود لا يختلف.
وأما أداء الصوم فلأنه لا يفوت مطلقا، بل يفوت إلى خَلَف وهو القضاء، وبه يندفع ما ذكروه من صورة إنقاذ الغريق وترك الجمعة والجماعة لحفظ المال أيضا، وبقاء الذمي بين أظهر المسلمين معصوم الدم والمال، ليس لمصلحة المسلمين، بل لأجل إطلاعه على محاسن الشريعة وقواعد الدين؛ ليسهل انقياده، ويتيسر استرشاده، وذلك من مصلحة الدين لا من مصلحة غيره” انتهى من الإحكام في أصول الأحكام (4/ 275).
فالخلاف في هذا الترتيب معتبر، ولكل قول أدلته.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب